فصل: 15 - الدعوة إلى الله سبحانه شرف في الغاية، وطهارة في الوسيلة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله **


 11 - التعبئة الإعلامية

لم يخصص النبي صلى الله عليه وسلم أناسا للوعظ والإرشاد، وآخرين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفئة ثالثة للدعوة والتعليم، وإنما جعل من كل مسلم داعية، ومعلماً، وآمراً بالمعروف وناهيا عن المنكر، وحمَّل أمانة تبليغ العلم لكل من حمل علما، وبهذا عبَّأ المسلمين جميعا إعلاميا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع‏]‏ وقال‏:‏ ‏[‏بلِّغوا عني ولو آية‏]‏ وقال‏:‏ ‏[‏من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏]‏ وجاء القرآن الكريم كتاب الله ليعلن للمسلمين أنهم جميعا أمة مرسلة إلى الناس، وأن شأنهم هو الدعوة حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ هنا ليس معناه التبعيض بل معناه ابتداء الغاية كما هو معلوم في القواعد، أي لتكونوا أمة يدعون إلى الخير كما أقول لك ليكن منك رجل صالح أعني لتكن أنت رجلا صالحا وجاء أيضا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله‏}‏ أي هذه صفتكم‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، ومعلوم أن الموصوف بصفة لا يكون موصوفا بها إلا إذا كانت ملازمة له فإذا انفكَّت عنه لم يوصف بهذا الوصف، ومعنى هذا أن الأمة الإسلامية لا تكون خير أمة إلا بتحقق هذه الأوصاف الثلاثة الآنفة‏.‏

وكذلك جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا‏}‏ والشهادة على الناس من لوازمها العلم بما عند الناس، وإقامة الحجة عليهم، ولا تقوم الحجة إلا بالعلم والدعوة والجهاد والصبر‏.‏

وهكذا عبَّأ القرآن المؤمنين جميعاً للجهاد والدعوة، وحمّل كل مسلم أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحكم على الذي لا ينكر المنكر بوسيلة من وسائل الإنكار الثلاث‏:‏ اليد واللسان والقلب ، أنه ليس على شيء من الدين، بل جرَّده من أقل الإيمان المنجِّي من عذاب الله وهو مقدار حبة الخردل، وبهذا جعل الله سبحانه وتعالى من كل فرد آمن مع الرسول داعية، ولم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يجعل فئة خاصة تتولى هذا الأمر‏.‏

وهذه التعبئة الإعلامية جعلت من كل فرد حارساً للشريعة وقائماً بأمر الله سبحانه وتعالى‏.‏

ولقيام الحق بهذه المهمة جُعِلَت ‏"‏الحصانةُ‏"‏ لكل من قال كلمة الحق سواء من اعترض بها على الحاكم أو من قذف بها في وجه شريف، فكل مبلِّغ عن الله ورسوله آمن مادام في دائرة الحق، ومادام أنه يملك الدليل‏.‏‏.‏ وبهذا استقامت أمور الرعية في صدر الإسلام، وفي كل زمان كفل فيه الحاكم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولم تفسد الأمور إلا بعد أن كُمِّمت الأفواه ومُنعت كلمة الحق من أن تصل إلى الظالمين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بأن يحمل أمانة الدعوة للمسلمين في اليسر، وإنما حمَّلهم هذه الأمانة في الشدة والعسر، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر‏]‏، وبشر الذين يستشهدون في سبيل هذا النوع العظيم من الجهاد بأعظم شهادة فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم‏:‏ ‏[‏سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله‏]‏ وحذر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال‏:‏ ‏[‏لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن عليكم ذلا فلا يرفعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم‏]‏، فجعل الذل نتيجة لترك جهاد الكلمة وجعل العودة إلى جهاد الكلمة هو العودة إلى الدين‏.‏

فهل يقدِّر دعاة الإسلام اليوم جهاد الكلمة‏؟‏‏!‏ وهل يعلم المسلمون أن الدعوة واجبة على كل فرد فيهم‏؟‏ وهل يعلم الذين يكتمون العلم ويشترون به الدنيا أن الله قال فيهم‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏}‏‏؟‏‏.‏

 12 - لون من ألوان تحطيم الباطل

لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ببيان الحق الذي يعتقده، والذي أمره الله سبحانه وتعالى بإبلاغه للناس، بل قام بهدم جميع الباطل من حوله عقيدة وفكرا ورجالا وقوميات ودولا، وواجه هذا كله جميعا، معلنا بصراحة ووضوح أن طريقه هو الطريق الوحيد الذي يجب على البشر جميعا اتباعه، ولا يجوز لهم بتاتا اختيار غيره، وإن كل هذه الطرق والسبل -غير طريقه- طرق وسبل باطلة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وإنه لا تعايش مع هذا الباطل إلا بأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى‏.‏

ولم يرض صلى الله عليه وسلم من أتباعه أن يعلنوا اعتناقهم لدينه وتصديقهم له دون كفرهم بكل دين سواه، وتكذيبهم كل ما يخالفه‏.‏‏.‏ وأعلن القرآن لهم هذا صراحة وبلا مواربة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏‏.‏

والطاغوت كل ما جاوز حده من معبود ومتبوع غير الله سبحانه وتعالى ورسوله، فلا عبادة إلا لله، ولا طاعة مطلقة إلا لله ورسوله، وكل ما سوى ذلك فلا قدسية له إلا بالمقدار الذي يقدسه الله ورسوله، وكل ما وضعه الله ورسوله فهو وضيع إلى يوم القيامة مهما عظَّمه الناس ورفعوه‏.‏

وقام النبي صلى الله عليه وسلم مسفهاً عقائد قومه مستهزئا بآلهتهم، واصفاً عقولهم بكل نقيصة، وعيونهم وأسماعهم بالعمى والصمم، وحوَّل جهده إلى اليهود الذين زعموا احتكار الهداية واختصاصها بهم، فنشر فضائحهم وأخرج مخازيهم التي تعاهدوا دهورا على كتمها والتستر عليها حتى من أولادهم وجهلتهم، وجاءه النصارى يجادلون بالباطل فأفحمهم ببيان ضلالهم، وجهلهم في معبودهم ورسولهم وأحكام ملتهم، وهكذا لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم مخالفا له إلا فاجأه بضلاله وتناقضه وجهله وعماه‏.‏

ترى القرآن يستهزىء من آلهة المشركين ويتهكم، فتراه يقول‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى‏}‏‏.‏

فكأنه يقول لهم‏:‏ يا معشر الأغبياء‏!‏‏!‏ هل نظرتم إلى اللات والعزى ‏(‏اللات صنم لرجل صالح كان يلت السويق للحاج، فلما مات نصبوه على قبره ودعوه من دون الله، والعزى بيت بالطائف كانوا يزعمون أن الجن تكلمهم منه‏)‏‏؟‏ وهل نظرتم أيضا وتفكرتم في شأن مناة هذه الثالثة الأخرى التي دعوتموها ‏(‏ومناة حجر كان بساحل البحر قرب جدة وهو للأوس والخزرج خاصة‏)‏‏؟‏ ثم يسكت فلا يجيب عنها، وكأنه يقول ماذا في هذه الأحجار حتى تُدعى وتُسأل من دون الله‏؟‏‏!‏ ثم يقول لهم هل يرزقكم الله بالذكور من ذريتكم ويختص نفسه بالإناث‏؟‏ ‏(‏وقد زعموا أن الملائكة إناث وهن بنات الله‏!‏ تعالى الله عن قولهم‏)‏‏.‏

ثم يقول لهم‏:‏ هذه قسمة جائرة أن تعطوا البنات لله، -وأنتم تكرهون البنات- وتختصوا أنفسكم بالبنين‏!‏‏!‏ وكأنهم هم الذين يوزعون ويقسمون‏.‏‏.‏ ومثل هذا الأسلوب البليغ -وكانت العرب تقدر الأساليب البليغة، وُتميِّز بين جيد الكلام ورديئه- يحطم عقائد الضلال تحطيماً‏.‏

ويأتي النبي إلى الأشخاص فيشوِّه سمعتهم بالحق لا بالباطل، ويصفهم بما هم فيه‏:‏ ‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم‏}‏‏.‏

ومثل هذا الكلام غاية في بيان الفساد والجهل، وفي أن يُبقي من وُصِمَ به معيبا أبد الدهر، وإذا كان سيدا في قومه فلا قيام له ولا بقاء لسيادته بعد انطلاق هذه الكلمات من فم النبي الطاهر الذي لا ينطق عن الهوى، والذي جرَّب أعداؤه قبل أصدقائه معه الصدق، وأنه لا يُلقي الكلام على عواهنه‏.‏

ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى سيد مكة -رجل يكنيه قومه بأبي الحكم- فيبدل النبي كنيته التي تشعر بالحكمة والقيادة إلى أحط الكنى فيسميه ‏"‏أبا جهل‏"‏ وتصبح هذه الكنية الجديدة علماً عليه فلا يعرف إلا بها وبهذا ينهدم ركن من أركان الفساد والباطل ينهدم معنويا وينتظر المسلمون بعد ذلك أن يهلكه الله كما أهلك أسلافه من قبل‏.‏

ويأتي عم النبي أبو لهب فيعلن في جمع مكة الذي جمعه النبي لسماع أول إعلان بدعوته - يعلن العداوة، ويبدأ الرسول بالشر، ويقول له‏:‏ ‏"‏تبا لك سائر اليوم‏!‏‏!‏ ألهذا جمعتنا‏؟‏‏!‏‏"‏ فينزل القرآن بالهزء والسخرية به وبزوجته‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد‏}‏‏.‏

ويقرأ المسلمون في صلاتهم بالليل هذه الكلمات تثبيتاً لعقيدتهم، واستهزاء بأعدائهم، ويقف المشركون مشدوهين أمام هذا الأسلوب البليغ المعجز، الذي جاء يزلزل الأرض تحت أقدامهم، فلا عقائدهم هي العقائد المهتدية ولا رجالهم هم القدوة، ولا عقولهم وأحلامهم كما كانوا يعهدون‏:‏ علماً وحجى وفهماً وأحلاما تزن الجبال، كما كانوا يظنون، بل كل ذلك داسه النبي بأقدامه وزلزل أركانه وبنيانه‏.‏‏.‏ والعجب أن كل ذلك يحدث والنبي في قلة قليلة من المؤمنين‏!‏‏!‏‏.‏

 13 - الإعلام الخبيث وموقف الإسلام منه

نعني بالإعلام الخبيث انتحال الكذب، وتلفيق الأقاويل، ونشر الإشاعة، وذلك لهدم العدو، وصرف الناس عن دعوته، وتخذيل أتباعه، وهذا النوع من أساليب الإعلام هو من أشدها فتكاً ، وأعظمها تدميرا وهدماً‏.‏

وبالرغم من أن الإسلام منذ بدأ قابل أناسا استخدموا معه هذا الأسلوب الخسيس من أساليب الإعلام إلا أن طلله لم يبح لنا أن نعاملهم بالمثل، فنفتري الكذب كما يفعلونه، ونلفق الأقاويل كما يصفون، بل نعالج هذا ببيان زيف أقوالهم، وكذب ادعاءاتهم‏.‏‏.‏ ولقد وقع الإعلام العربي في هذا الربع الأخير من هذا القرن في أحاييل هذا النوع الخبيث من الإعلام فقد انطلق الإعلام بوسائله المختلفة‏:‏ الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون إلى تضخيم قوة العرب، وإظهارها بغير حجمها، واستصغار قوة العدو وتحقيرها، وبيان تفكك مجتمع الأعداء، واختلاف قادته، وانهيار اقتصاده حتى ليكاد الفرد أن يشعر أن العدو زائل بنفخة واحدة، بل وبدون هذه النفخة‏.‏‏.‏ إلخ، هذه المزاعم التي هدهدت الفرد العربي وأعاقته عن التفكير الجدي، ثم صحا من نومه على غير ذلك تماما، وبذلك انهار إيمانه بصدق الرسالة الإعلامية العربية، وابتدأ يثق بكلام عدوه‏.‏‏.‏ والشاهد أن الإعلام الكاذب قد يظهر لمروجيه أنه نافع لهم بعض الوقت، ولكن مآله عليهم بالخسران المبين، وما كان الله ليحل لنا هذا الأسلوب من أساليب الحرب مع أعدائنا‏.‏

ولذلك وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع مع أعدائه إلا الصدق المحض‏.‏

ولا يدخل في هذا الباب بالطبع بيان العيوب الحقيقية عند العدو، بل لا تقوم الرسالة الإعلامية الإسلامية مع العدو أصلا إلا على هذا الأسلوب، فبيان عوار الشرك والمشركين، وفضح اعوجاجهم، ونشر فضائحهم الحقيقية وظلمهم وغشمهم، وبيان فساد أخلاقهم وأعمالهم هو أهم أركان الرسالة الإعلامية الإسلامية‏.‏

ولذلك تنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ببيان فضائح اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وأحيانا يُسمي أشخاصا بأعيانهم ويصفهم بما هم فيه من شرك وضلال وانحراف‏.‏

والدعوة إلى الإسلام لا تعني فقط الدعوة المجردة إلى فضائل الإسلام ومحاسن عقيدته وشريعته، وبيان فساد ما يخالف هذه العقيدة من عقائد وتصورات وشرائع، بل يشمل أيضا الدفاع عن حملة هذا الدين وتصحيح مواقفهم، وتبرير أعمالهم بالحق لا بالباطل، وفضح مخازي أعدائهم وظلمهم وغشمهم‏.‏

فالإسلام لا يقوم من فراغ، ولكنه يقوم برجال يدافعون عنه ويؤمنون به، ويجاهدون في سبيله، وهؤلاء الرجال بشر لهم خطوهم وصوابهم، وضعفهم وقوتهم، وكذلك فأعداء الإسلام ليسوا أعداء وهميين خرافيين، ولكنهم بشر وقوى حقيقية تعيش على هذه الأرض، وتحارب الإسلام بأعمال وأساليب متطورة وغير منظورة‏.‏

والحرب الإعلامية مع هؤلاء الأعداء لا يجوز بتاتا أن تتخذ حملات الكذب والافتراء والتشويه، بل يجب أن تتخذ الصدق والأمانة المطلقة في النقل والحكاية، فتحميل العدو ما لم يقل، واتهامه بما ليس فيه، وإلقاء الكلام فيه على عواهنه، واستحلال الكذب عليه لأنه عدو ولأنه كافر‏.‏‏.‏ كل هذا مناقض للإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وللأسف‏!‏ لقد وقعت طوائف كثيرة في هذا ممن ينتحلون الدعوة إلى الله سبحانه فكأن الله قد أباح لهم أعراض أعدائهم فرموهم بكل ما استطاعوا أن يرموهم به من العمالة للأجنبي والكفر والردة والمجون والخلاعة، وقد يكونون في كل ذلك متحاملين جاهلين‏.‏

وليت الأمر اقتصر في هذا النوع من أنواع الإعلام الخبيث على رمي بعض المسلمين لأعدائهم بالكفر في غير محله، وبالعمالة للأجنبي بغير دليل، بل تعدى هذا إلى رمي بعضهم بعضاً بمثل هذه الأوصاف وأبشع منها فلا يكاد يحدث بين بعضهم بعضاً خلاف أو تنافس حتى تبدأ حرب الاتهامات والتشويه، وانتحال الكذب والافتراء، والرمي بالعمالة للأجنبي، والاستخدام ‏(‏للسلطات‏)‏ والقبض من الحكومات، ثم يتعدى هذا إلى التشكيك في النوايا والحكم على ذوات الصدور، ومكنونات الأفئدة‏.‏‏.‏ وكثيراً ما يكون الدافع إلى كل هذا الكذب والافتراء ليس هو الخلاف والتنافس بل هو البدايات للدعوة والجهاد، وكأن الدعوة إلى الله لا تبدأ إلا من تشويه العاملين في صفوفها وانتحال الكذب والباطل على من سبق فيها‏.‏

وبالطبع لا يدخل في ‏"‏الإعلام الخبيث‏"‏ النقد الموضوعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ فالتقويم والنصح هو واجب كل مسلم نحو الإمام العام ونحو عامة المسلمين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الدين النصيحة ‏(‏ثلاثاً‏)‏ قلنا لمن‏؟‏ قال‏:‏ لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم‏]‏ فإظهار الخطأ الواقع والعيب المتعمد أمر ضروري حتى تتجنب الأمة أخطاءها ولا تقع في تقديس رجالها تقديساً يمنع عامة الناس أن يعرفوا خطأ المخطئ وإذا ضاع خطأ المخطئ فقد ضاع أيضا صواب المصيب، وذلك أنه إذا انتشرت أخطاء من نعظمهم ونحترمهم، وتُركَت دون بيان وتحذير، فإننا نصل حتماً إلى فوضى عامة يختلط فيها الصواب بالخطأ، بل ويصبح الخطأ أعظم رواجاً وأرجى قبولا، وذلك أن هذا الخطأ يحتمي بالأشخاص العظام الذين نحبهم ونحترمهم، ولذلك فإنه لا يجوز بتاتاً أن نسكت عن باطل مادام أن هذا الباطل يجد من يحمله ويروِّجه، استناداً إلى أن عظيماً قال به، وهذا الذي نقوله هو أعظم حق ضيَّعه من يعيشون على الدعوة إلى الله، لا من يعيشون للدعوة في سبيل الله، وللأسف‏!‏ استعاض هؤلاء عن بيان الحق وإظهار النصح والتحذير من الأخطاء بالكذب المتعمد والتشويه الظالم واستخدام أسلوب ‏[‏الإعلام الخبيث‏]‏ الذي بيناه آنفاه وحذَّرنا منه‏.‏

وباختصار، فإنه لا يجوز بتاتاً للمسلمين في رسالتهم الإعلامية أن يتعمدوا الكذب على أعدائهم، وأن يلصقوا بهم تهمة باطلة، أو أن يصفوهم بوصف ليس فيهم، وإذا كان هذا مع العدو الكافر محرَّما ، فهو مع المسلم أشد حرمة وفتكاً ‏[‏ولعن المؤمن كقتله‏]‏‏.‏

وأما إظهار العيوب الحقيقية، وبيان الظلم الواقع، فهو أمر مطلوب ومرغوب، سواء اتصف بهذا الظلم والعيب عدو كافر أو أخ مسلم، والاختلاف إنما يكون فقط في أسلوب بيان هذه العيوب، وباب الأساليب باب واسع لأنه يختلف من حالة إلى حالة ومن فرد إلى فرد، ولكل مقام مقال، والمهم أن أصل هذا المشروع، بل هو من قواعد الدعوة إلى الله وآدابها، وهذا ما امتازت به الدعوة السلفية عبر القرون وذلك أنها دعوة تتمسك بالحق ولا يطغى حب الفرد واحترامه وتقديسه فيها على بيان عيبه وخطئه إذا كان ثمة عيب وخطأ، كما قال عمر بن الخطاب وهو سيد من سادات السلف الصالح رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏وإذا أسأت فقوِّموني‏"‏ والتقويم يعني النصح وبيان الخطأ، ولذلك ناقشه الصحابة في أمور كثيرة، وردُّوا عليه في قضايا كثيرة، وليس بلازم أن يكون الحق مع الناصح، بل يلزمه أن يعتقد أو يغلب على ظنه على الأقل أن ما ينصح به حق‏.‏

وأما الكذب والافتراء والتشويه واتهام النيات التي لا يطَّلع عليها إلا الله، فهو أسلوب الماكرين والجاهلين والمفسدين، والله لا يصلح عمل المفسدين‏.‏

 14- لا كلال ولا ملل

تُشبَّه الرسالة الإعلامية الموجَّهة للمؤمنين بالنهر في جريانه ونفعه، فطالما أن النهر يظل يجري طالما انتشر الري والنماء فيما حوله، فإذا توقف النهر عن الجريان توقفت الحياة حوله، وهكذا الرسالة الإعلامية للإسلام، طالما قام الداعون لها والمؤمنون بها بدعوتهم الدائمة المستمرة، طالما انتشر الدين والإسلام والفضيلة، وفي اليوم الذي تنقطع فيه الدعوة إلى هذا الدين سينقطع هذا الدين، ولا يقال في الأرض الله‏.‏‏.‏ الله، ومعنى هذا أن الداعين إلى الإسلام لا يجوز بتاتاً أن يظنوا أنه سيأتي يوم يلقون فيه عصا التسيار ويركنون إلى الدنيا، ويظنون أن الناس يسيرون وفق ما سلف تبليغه ونشره‏.‏

وتشبه الرسالة الإعلامية المضادة التي يجب أن يقابل بها الداعون للإسلام المحاربين له - تشبه هذه الرسالة الحرب الحقيقية، بل هي حرب حقيقية تتصارع فيها الأفكار والعقائد، وميدانها هو العقول والقلوب، وبالتالي الأخلاق والأنظمة، ونظم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتعليم والتربية‏.‏‏.‏ هذه الميادين الإنسانية هي ميادين الحرب الإعلامية، بين الإسلام والكفر، وبين الحق والباطل، ولن يزال هذا الصراع إلى قيام الساعة، ليس بين الإسلام والكفر، بل وبين كل رأي ورأي، وفكر وفكر، ونظام ونظام‏.‏‏.‏ فالعلوم الإنسانية مازالت ولا تزال ميداناً للصراع حتى قيام الساعة، وذلك بعكس العلوم الطبيعية التجريبية التي لا يختلف الناس كثيرا حول الحق والباطل فيها، لخضوعها للحس والبرهان التجريبي‏.‏

وفي اليوم الذي ينهي فيه أهل رسالة ما حربهم الإعلامية للنظريات والأفكار المضادة - في هذا اليوم يقضون على أنفسهم وعلى رسالتهم، وبالتالي على وجودهم وحضارتهم تماما، كما لو كان هناك جيشان متقاتلان تخلى جيش منهما عن سلاحه، وسلم نفسه وأرضه للجيش الآخر‏.‏

والمسلمون اليوم في مثل هذه الحالة، تماما، فقد ألقوا سلاحهم الإعلامي في وجه الأسلحة المضادة، وهجروا الأساس الذي قامت عليه حضارتهم الآنفة، واقتنعوا واستسلموا لغزو العدو الفكري والعقائدي، وسلَّموا مواقعهم الفكرية والعقائدية موقعاً موقعاً ، بل قام من أبناء هذه الحضارة الإسلامية من ينتحل فكر العدو ويدافع عنه، ويكون جنديا مخلصا في صفوف أعداء هذه الأمة‏.‏

المهم من هاتين المقدمتين أن نعلم‏:‏ أنه لا يجوز بتاتا في سبيل نشر الإسلام بين أبنائه أن نظن أن هذه العملية التعليمية الإعلامية يجب أن تهدأ، وأن يصيب أهلها الكلال أو الملل، وليس معنى هذا هو التكرار البليد الغبي لخطب الجمعة والاحتفالات بالمناسبات الدينية، وتكرار دروس مدارس التربية الإسلامية الممل الشائه، وإنما معناه الإبداع المستمر والحركة المتواصلة والتقليب الدائم، والعرض الجديد لمبادئ الإسلام الخالدة‏.‏‏.‏ ‏(‏ولهذا تفصيل في مقام آخر إن شاء الله تعالى‏)‏‏.‏ وكذلك لا يجوز بتاتا أن يظن حملة الرسالة الإعلامية الإسلامية المنافحة عن هذا الدين -والتي تعرض لهذا التهجم الشرس من أعدائه- أنه سيأتي يوم تهدأ فيه هذه الحرب وتخمد نارها، إلا إذا حكمنا على أنفسنا وحضارتنا بالدمار والاندثار‏.‏

وفي المعاني السابقة نزلت الآيات الكثيرة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر في الإبلاغ، وتكرار المرة تلو المرة، والاستمرار في الدعوة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‏}‏ وقد أخذ القتال أشكالا وأنماطاً كثيرة عبر التاريخ، فمن الشعوبية السرية، إلى الحملات العسكرية، إلى الحملات الفكرية العلنية، إلى نبش جذور الإسلام والبحث عن خلع أسه وأساسه من النفوس والقلوب، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم‏}‏ الآية‏.‏

باختصار‏:‏ أهل الدعوة الإسلامية مطالبون بألا يتطرق الكلال إلى نفوسهم‏:‏ وأن يعلموا أن رسالتهم الإعلامية بالإسلام رسالة أبدية مع المؤمنين بها، ومع المحادِّين والمحاربين لها، وأنهم مطالبون دائما بالتجديد والابتكار في أساليب العرض وأفانين القول، وأن الحق واحد قديم لا يتغير ولا يتبدل، وإنما تتغير الوسائل والأساليب وأنماط البيان والعرض، وأما هذا التكرار الغبي الأبله فإنه لا يزيد الناس إلا نفورا، وهناك فارق عظيم جدا بين الاستمرار الذكي الناجح، والمداومة الجادة الخلاَّقة، وبين هذه الأنماط الجامدة المحنطة، والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى‏.‏

 15 - الدعوة إلى الله سبحانه شرف في الغاية، وطهارة في الوسيلة

الأهداف التي تريد الدعوة الإسلامية أن تصل إليها أهداف شريفة ، فمنها توجيه الناس إلى ربهم وخالقهم -سبحانه- ليعبدوه ويوحدوه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏، ولقوله تعالى أيضا‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏ ومنها إقامة العدل في الأرض وفرض السلام والأمن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‏}‏، فالعدل بين الخلق مقرون بتحكيم شريعة الله والإذعان لأمره‏.‏

ومن الغايات أيضاً إصلاح النفوس ، وإشاعة المحبة والتآلف والتعاطف بين أخوة الدين والعقيدة، والحق أن منافع الدين وغاياته الشريفة الطيبة كثيرة وعظيمة، ولكن السبل إلى تحقيق هذه الغايات في عالم الواقع شاق وصعب وطويل، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد شاءت حكمته أن يبتلى الرسل والدعاة بال جرمين والمنافقين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين‏}‏، ولكن مع وجود العقبات العظيمة التي تقف في طريق الدعوة، فإن الله سبحانه وتعالى أمر المسلمين بطهارة الوسيلة التي يجب عليهم اتخاذها للوصول إلى أهدافهم، ونعن بطهارة الوسيلة استقامتها وبعدها عن المكر والخديعة إلا في الحروب، والبعد عن المداهنة والغدر والكذب مطلقاً، وكل هذا بالطبع حرام مع الأعداء والكفار كما هو مع الأصدقاء والمسلمين، ومن أهم الوسائل التي حرَّمها الله سبحانه وتعالى‏:‏

1 - المداهنة‏:‏

وهي إظهار الرضا عن باطل الخصم مع الاعتقاد أنه باطل، وانتظار فرصة أخرى لإعلان ذلك، قال تعالي لنبيِّه ا كريم‏:‏ ‏{‏ودّوا لو تُدهن فيدهنون‏}‏ أي لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم، كما قاله الحسن البصري -رحمه الله- والمداهنة غير اللين في الدعوة فاللين مطلوب والمداهنة مذمومة‏.‏‏.‏ قال تعالى في اللين‏:‏ ‏{‏فقولا ل قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ وهذا في دعوة فرعون إلى الإسلام‏.‏

2 - الغدر‏:‏

والمقصود بالغدر نقض العهد بالسلم والهجوم على العدو مع قيام العهد بالأمان‏.‏‏.‏ وفي صحيح البخاري أن هرقل سأل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ وهذه شهادة من أبي سفيان رضي الله عنه حال كفره وقبل إسلامه‏.‏ وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته فلم يغدر قط وأوفى الأعداء عهودهم وقد أمر الله بذلك حتى مع تبييت نية الخيانة عندهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قكم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ ومعنى انبذ إليهم على سواء‏:‏ أي أعلمهم أن عهدهم معه مقطوع ومرفوض قبل أن تفاجئهم بقتل أو قتال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان إثم الغادر‏:‏ ‏[‏يرفع لكل غادر لواء تحت استه يوم القيامة يقال فيه‏:‏ هذه غدرة فلان ابن فلان‏]‏، وهذه فضيحة على رؤوس الأشهاد للغادرين‏.‏ ولاشك أن المقصود بالغدر في الآيات والأحاديث السابقة هو نقض العهود مع الأعداء ولو كانوا كفاراً‏.‏

3 - الكذب‏:‏

ولا شك في تحريم الكذب كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، ولم يُجِز النبي صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يكذب على الكافر إلا في الحرب فقط، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الحرب خدعة‏]‏، والحق أن الخداع والمكر في الحروب ممدوح وليس بمذموم، وأما المكر والخداع فيما عدا ذلك فهو مذموم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ ولاشك أن من أعظم صفات النبي صلى الله عليه وسلم أثرا في قبول دعوته أنه كان صادقا أمينا حتى مع أعدائه ولذلك شهدوا بذلك قبل الرسالة وبعدها‏.‏

ولاشك أن الدعاة إلى الله إذا اتصفوا بأضداد هذه الصفات المذمومة فكانوا صرحاء صادقين لا يبطنون غير ما يظهرون ولا يغدرون ولا ينقضون عهداً ولا يخفرون ذمة ولا يفترون كذباً فإنهم بذلك على درب الرسول سائرون‏.‏

 16 - حذار من الأخطاء‏:‏

الإسلام مبدأ حق وعدل، لم يعتمد وسيلة في انتشاره إلا الإقناع والحجة والمنطق، وهذا ما يسمى في لغة الإعلام بالانتشار الذاتي‏.‏

وذلك أن هناك ثلاث وسائل فقط لنشر أي مبدأ وشيوعه وهي‏:‏ الترغيب، وذلك بأن نقول مثلا للشخص إذا دخلت في هذه الجماعة أو اتخذت هذا المبدأ أعطيناك كذا وكذا، فيدخل الشخص في العقيدة أو الحزب رغبة فيما سيدر عليه ذلك من مال أو جاه أو منصب، والثاني هو التهديد كأن يقال للناس ادخلوا في هذا الدين وإلا أوقعنا بكم من العقوبة كذا وكذا، والثالث هو الاقناع بالفكرة والمبدأ أو الدين، فالشخص يدخل ديناً ما أو يعتقد عقيدة ما إذا علم مقدار الخير الذاتي الذي سيناله منها، أو مقدار الشر الذاتي الذي يناله من جراء تركها، ونعني ‏(‏بالذاتي‏)‏ هنا الذي تحققه نفس العقيدة‏.‏

فالمسلم يدخل في الدين راغباً وراهباً، راغبا في الثواب المترتب على القيام بتكاليف هذا الدين، وخائفا من العقوبة الحقيقية المترتبة على ترك هذا الدين‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يكن عنده من المال والمناصب ما يستطيع توزيعه ليدخل الناس في دينه، ولم يكن يملك السيف أو السوط الذي يرهب به من لا يستجيب له، ولذلك دخل من دخل في دينه اقتناعاً وإيماناً، ولم يظهر0النفاق إلا في المدينة لا لأن الرسول كان يوزع هناك المناصب لمن يدخل الدين، ولا لأنه كان يرهب من يعارضه، ولكن لأن النفوس الضعيفة تنحاز إلى من يرجون عنده النفع أو يخافون منه الضر‏.‏

وإذا كان الدين ينتشر بالاقتناع الذاتي أو هكذا ينبغي أن يكون، فإن الأمور التي ينبغي أن يقتنع الناس بها كثيرة، وأهمها أمران‏:‏ الأمر الأول مجموع العقائد والشرائع والأخلاق التي يدعو إليها الدين، والأمر الثاني هو السلوك العملي للدعاة بهذا الدين، وإذا كانت مجموعة العقائد والشرائع والأخلاق التي جاء بها الدين معصومة من الخطأ لأنها من الله سبحانه وتعالى، فإن الأفراد الذين يقومون بتطبيق هذه العقائد والشرائع والأخلاق غير معصومين، بل هم معرضون دائما للخطأ والصواب‏.‏

وإذا كان العدو الذي تحاول إقناعه بمبدئك ويحاول هو صرفك عن عقيدتك حريصا على معرفة أخطائك وتلمس عثراتك، فإن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى يجب عليهم أن يكونوا حذرين من الأخطاء لأنها محسوبة عليهم، وإذا ارتكب الدعاة خطأ لا يستطيعون التخلص منه ولا تبريره ولا العبور فوقه، فمعنى ذلك أنهم قد وصلوا إلى طريق مسدود في حربهم الإعلامية، أعني أن أعداء الإسلام إذا نشروا مجموعة الأخطاء التي يرتكبها الدعاة إلى الله ولم يستطع هؤلاء الدعاة أن يتخلصوا من هذه الأخطاء، فإنهم بذلك يشلون حركتهم ويصرفون الناس عن طريقهم‏.‏ وإذا كان أعداء الإسلام يلجؤون عادة إلى الكذب والافتراء والتشويه، فكيف إذا وجدوا من واقع أحوال الدعاة إلى الإسلام ما يكفيهم عناء الكذب والافتراء‏.‏

باختصار إذا أراد أصحاب أي دعوة أن يقفلوا الطريق في وجوه أنفسهم، وأن يفشلوا في رسالتهم الإعلامية، فما عليهم إلا أن يرتكبوا مجموعة من الأخطاء المتعمدة لا يستطيعون الاعتذار عنها، وبذلك يحصلون على تقاعد دائم وإلى الأبد‏.‏

وكفار مكة الذين جابهوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتمنون أن يجدوا خطأ واحدا يستطيعون إشهاره وتطييره مع الركبان في كل مكان ليحجبوا الناس عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لم يجدوا هذا الخطأ، فقد التزم النبي والمسلمون معه بمكة جانب الصبر على الأذى، والرد بالحسنى على إساءة المجرمين ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً‏}‏ والدعوة والجدال بالتي هي أحسن، وبذلك جرَّدوا أعداءهم من أي ذريعة يستطيعون التذرع بها لقتلهم وإفنائهم، فما للمسلمين عندهم من جرم إلا أن قالوا ربنا الله‏!‏‏!‏ وهل هي جريمة أن يعرف إنسان ربه، وأن يعبده دون ضغط أو إكراه أو إغراء من أحد‏.‏

وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وتغيَّر تبعاً لهذه الهجرة موقف النبي صلى الله عليه وسلم وابتدأ إرسال السرايا والبعوث لقطع طريق قريش الشمالي إلى الشام والجنوبي إلى اليمن، كان من هذه السرايا الجنوبية سرية عبدالله بن جحش رضي الله عنه التي التقت بعير قادمة من اليمن لقريش عليها عبدالله بن الحضرمي، وكان ذلك في الليلة الأخيرة من شهر رجب، وهو شهر محرم فيه القتال في الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإقرار هذا العرف الجاهلي لما فيه من مصالح عظيمة، وجد عبد الله بن جحش أنه إن هاجم قافلة ابن الحضرمي هاجمها في شهر حرام وإن صبر إلى الليلة التالية دخلت أرض الحرم ولا يجوز فيها قتال أبدا فاستشار أصحابه واستقر على مهاجمة القافلة فقتلوا ابن الحضرمي واستاقوا الغنائم إلى المدينة، ووجدت قريش بغيتها في هذا الأمر، وطيَّرت الركبان بأخبار اعتداء النبي صلى الله عليه وسلم على قافلتها في الشهر الحرام، وكانت العرب تُعظِّم الشهر الحرام أيما تعظيم ويلقى الجاهلي فيه قاتل أبيه وأخيه فلا يسل السيف في وجهه، وكان هذا الخطأ كافياً في صد الناس عن دعوة الإسلام‏.‏‏.‏ ولما وصلت السرية المدينة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام‏!‏‏!‏‏]‏ وحزن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أنزل قرآنا ليعلمنا كيف نخرج من أخطاء الاجتهاد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير‏}‏ أي القتال في الشهر الحرام كبيرة من الكبائر وبهذا الاعتراف امتص النبي صلى الله عليه وسلم غضب الناس ونقمتهم فمهما كان ذنبك عظيما ولكنك مستعد للاعتراف به والتنازل عنه فإنه يتحول إلى مخالفة صغيرة‏.‏‏.‏‏.‏ وبعد هذه الامتصاص للنقمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أشد من القتل‏}‏ أي لقد ارتكبتم أيها الكفار ‏(‏كفار مكة‏)‏ ذنوبا أعظم من ذلك فقد صددتم الناس عن سبيل الله وكفرتم به وكفرتم بالمسجد الحرام والشهر الحرام، وأخرجتم أهل هذا المسجد الحرام منه واستحللتم دماءهم وفتنتوهم عن دينهم، هذه الفتنة أي التعذيب أكبر من القتل فهل تعدون أخطاء غيركم وتنسون أخطاء أنفسكم وبهذا رد الله سبحانه وتعالى سلاحهم عليهم وقتلهم به، ثم مسح الله سبحانه على أخطاء المجموعة المجتهدة فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك سيرحمهم الله، والله غفور رحيم‏}‏‏.‏

وبذلك استطاع المسلمون العبور السريع فوق هذا الخطأ، فلم يتبجحوا بأنه صواب ويكابروا بالباطل، ولم تستطع دعاية العدو وأكاذيبه أن تصيبهم بعقدة الذنب وتقعدهم عن الدعوة، وإنما اعترفوا بخطئهم وتجاوزوه بمقارنته بالأخطاء العظيمة التي يرتكبها عدوهم معهم‏.‏

واليوم ابتلينا بمن يتصدر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فيستحلون الاغتيالات السياسية والأعمال الهمجية الغوغائية، والاستعانة على الباطل بالباطل، وإذا جئت تنصحهم وتقول لهم إن هذه أخطاء اتهموك بالكفر والزندقة والمروق ومخالفة سبيل المؤمنين والمجاهدين، وإن قلت لهم اعترفوا بأخطائكم لتتجاوزوها زعموا لأنفسهم وقادتهم العصمة أو أنكروا الحقائق وجادلوا بالباطل، ولولا أن الدين الذي يحتمون فيه عظيم -وقد نشره غيرهم- لما وجد أمثال هؤلاء طريقاً إلى قلوب الناس وعقولهم‏.‏